اخبار ثقافية

رجل يدور في فلك القيل والقال (٢)

رجل يدور في فلك القيل والقال (٢)

 ” الشويعر يقتات على فشله “

الشاعرة والكاتبة / هناء سليم

في حضرة السقوط يكره الناجحين في دائرة مغلقة لا ترى النور ولا تعترف بالحقائق، وإنما تتغذّى على التشوية والتقليل من شأن الآخرين. كان يطوف حول نجاحات غيره كما يطوف الجائع حول مائدة لا يملك منها شيئًا، لا ليأخذ منها خيرًا أو يتعلّم، بل ليبحث عن شقوقٍ وهميّة ونقائص لا وجود لها سوى في عينه المريضة بالحسد شكّ أنّه كان يبحث عن النقص الذي يسكنه، لكنه آثر أن يراه في نجاح الآخرين. ذلك النقص الذي عجز عن مواجهته، فأسقطه على من حوله. فكان كل إنجاز يحققه غيره بمثابة صفعةٍ لفشلة، وكل تقدّم يحرزه أحدهم يشعل في داخله نارًا لا تنطفئ. وبدل أن يُصلح من حاله، بدأ يستنقص منهم، ويُوَشوش في آذان من حوله، ينثر الشكّ، ويبثّ السموم، ويغذّي العقول الضعيفة بالأكاذيب.

أمسك هاتفه مرارًا ليكتب خيباته ورسائله المشحونة بالحقد، يُفسّر النجاح على أنه تلاعب، والتفوّق على أنه صدفة، والتميّز على أنه مجاملة. أصبح حديثه مليئًا بالسخرية المبطّنة والابتسامات المزيّفة والعبارات التي تحمل في ظاهرها مدحًا، وفي باطنها طعنًا. لكنه لم يدرك يومًا أن الكلمات، مهما تنكّرت، تفضح النوايا.

تحوّل وجهه إلى مرآةٍ لما في داخله؛ قتامة، انكسار، واحتراق بطيء. ورغم ذلك ظلّ من حوله يُجاملونه مجاراةً لا احترامًا، ويصافحونه اتقاءً لا قربًا، وهم يعلمون ما يحمله في صدره من ضغينة سوداء تسكنه ويسكنها.

هو رجلٌ عدوٌّ للنجاح، عديم الرضا، متسلّق بلا قيمة، كذّا.. يُتقن دور الناضج في كل موقف. لا يملك من أدوات الحياة سوى لسانه، ولا من الشجاعة سوى القدرة على الطعن من الخلف. يرى في نور الآخرين فضيحةً لعتمته، وفي بروزهم تهديدًا لصورته الواهية، لذلك يحاربهم بسلاحه الوحيد: التشويه.

يمشي خلف الناجحين خطوةً خطوة، لا ليصل، بل ليترصّد. يبحث عن زلّةٍ عابرة أو هفوةٍ بشرية فيحوّلها إلى روايةٍ مُشوَّهة، وينفخها حتى تبدو كأنها الحقيقة المطلقة. نسي أو تناسى أن العظماء يُخطئون أيضًا، وأن المجد لا يُولد من المجالس الخاوية، بل من التعب، والصبر، والإصرار.

لم يعرف يومًا معنى البناء، لأن الهدم أسهل. لم يتذوّق طعم الإنجاز، لأنه اعتاد طعم الغيرة. لم يحاول أن يكون ضوءًا، فاختار أن يعيش ظلًّا باهتًا، يطارد الأجساد دون أن يصنع أثرًا.

ومع مرور الوقت، سيتلاشى؛ فالزيف لا يدوم، والأقنعة تتساقط حين تواجه الحقيقة. أما الذين حاربهم، فقد واصلوا السير بثبات، لأنهم أدركوا أن العيون المليئة بالحقد لا تستطيع إطفاء شمس النجاح، وأن ال… تنبح… والقافلة تمضي.

أما هو، فظلّ يدور في فلك القيل والقال، سجينًا لما صنعته يداه، أسيرًا لحقده، يراقب من بعيد طرقًا لم يملك يومًا الشجاعة ليمشي فيها.

وهكذا تثبت الحياة في كل مرة أنّ أعظم انتصار على أعداء النجاح ليس بالردّ عليهم، بل بالارتقاء فوق صغارهم، والاستمرار في الطريق بثباتٍ وثقةٍ ونقاء.

 هناء سليم 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى