الفنان حارث الناعبي.. ألوان وحكايات عُمانية بين الأصالة والمعاصرة

الفنان حارث الناعبي.. ألوان وحكايات عُمانية بين الأصالة والمعاصرة

يقدم الفن التشكيلي مساحة واسعة، ولُغة خاصة من لغات التعبير عن الذات والبوح الإنساني العميق، فبين ضربات الفرشاة وتفاصيل اللّوحة، يُولد إنجازٌ يحكي مغزى مُسّطرًا بألوانٍ ممزوجة بأفكار صاحبها. وفي عالمٍ يتزينُ بتنوّع تقنيات حُريّة التعبير وسهولة مشاركته للعامّة، يُبدع الفنّانون التشكيليّون في لوحاتهم وتأطير أفكارهم في مساحة لوحة صغيرة لتصل الى جُمهور كبير.
“اللّحظة التي شعرتُ فيها أنّني وجدتُ لُغتي الخاصّة كانت حين توقفتُ عن مُحاكاة ما أراه كما هو، وبدأتُ أُعيد صياغته من وجهة نظري، فبدأ الرّسم يتحوّل إلى لُغة حواريّة بيني وبين العالم”، هكذا استهّل الفنّان التشكيلّي حارث بن سُليمان الناعبي حديثهُ حول تجرته مع الفنّ التشكيلّي.
وأضاف: “كانت بداياتي مع الفنّ فطرية وغير ناتجة عن دراسة أكاديميّة أو تدريب رسمي، حيثُ كانت بعض المشاهد تختزنُ في ذاكرتي مُنذ الصغر وكأنّها دعوة صامتة لأُمسك بالريشة، فقد كُنت طفلًا مفتونًا بالشّكل واللّون، أُراقب التفاصيل الصغيرة في مُحيطي، كألعاب الضّوء على الجُدران، وتدرّجات لون السماء وقت الغُروب، والزّخارف التي تُزيّن أبواب البيوت القديمة”.

فلم يعُد يبحث الناعبي عن الدقّة الفوتوغرافية، وإنّما عن الجوهر والإحساس، وعن الصورة التّي تراها الروح قبل العين.
ولأنّ الفنّ التشكيلي عالمٌ واسعٌ، تندرجُ منه مدارسٌ فنيّة تحملُ كلًّا منها رؤيةً مُختلفةً وأسلوبًا فريدًا، تُتيح للفنّان اختيار مساحة مُعيّنة للتعبير، وتحويل رؤيته الفنّية الى واقع ملموس، فقّد آمن الفنّان الناعبي بفكرة التّرحال بين المدارس الفنيّة، والتنقّل بين موانئها ليجمع ما يحتاجه لرحلته الخاصّة، لا أن يحصُر نفسه بمدرسة فنيّة واحدة، فيقول: “بدأتُ بالواقعيّة لأنها أقربُ للعين، ولأنها علّمتني احترام النسبة والمنظور، ثم شدّتني التكعيبيّة بجُرأتها على تفكيك الشّكل وإعادة تركيبه في بُنية هندسيّة تحملُ بُعدًا فكريًا. واليوم، أجدُ نفسي أمزجُ بين الاثنين، وأحيانًا أستعيرُ شيئًا من التعبيريّة أو الرمزيّة إذا احتاجت اللوحة ذلك”، أمرٌ كهذا دلالة على أنّ الأُسلوب هو وسيلة للتعبير، لا قيدٌ يُلتزم به.
وباعتبار أنّ في عالم الفّن التشكيلي عناصر مُعيّنة، فكيفيّة تعامُل الفنّان مع العناصر الأساسيّة في اللوحة، تخضع لعدّة أُسس ومبادئ، وتختلف من فنّان لآخر. فعناصرٌ مثل (اللّون والخّط والفراغ) لها مفاهيمها الخاصّة، تُعطي إحساسًا بالعُمق والتأسيس الفنّي، كما أنّها تتنوّع بين التوازن والإيقاع والتباين لتكوّن لُغة بصريّة مُتكاملة تصل للمُشاهد برؤية ومشاعر الفنّان.

يُشير الناعبي في هذا السياق: “على سبيل المثال، اللّون عندي ليس مُجرد اختيار جماليّ، بل أداة تعبيريّة لها رسائلها، أحيانًا استخدم ألوانًا دافئة لأُحاكي الشّغف، وأحيانًا اختار الباردة لأخلق الهدوء أو العُزلة”، فلكُل لون طاقته ومعناه في السيّاق الشعوري للعمل الفنّي. وبالنسبة للخّط فيقول: “هو الإيقاع الداخلّي للّوحة، هو ما يقُود عين المُشاهد ويُحدّد مسار النظر، فلا أرسم خطًّا بلا هدف، بل ليكون جسرًا بين أجزاء التكوين”، وعند آخر عُنصر يُشير: “الفراغ هو مساحة صمت داخل اللّوحة، ومساحة تنفُس للمتلقّي، أتعامل معه كعُنصر نشط، لأنه أحيانًا يكون أقوى من الكُتل اللّونية نفسها، ويمنح المُشاهد فُرصة للتأمّل”.
وفي شأن الهوايات والمُمارسات الإبداعيّة باعتبارها متنفسًا يمنح الفرد فُرصةً لصقل المهارات بعيدًا عن ضغوطات الحياة اليوميّة، يصفُ لنا الناعبي الأسئلة الجماليّة أو الفلسفيّة التّي تشغل تفكيرهُ أثناء العمل الفنّي فيقول: ” أثناء الرسم، أُفكر فيما هو أبعد من المشهد الظاهر، أسأل: ماذا لو كانت الذكريات ألوانًا؟ كيف يبدو الحنين إذا تحوّل إلى خُطوط؟ كيف يُمكن أن أجعل الصّمت يتجسّد بصريًا؟، هذه الأسئلة ليست تنظيرًا ذهنيًا فقط، بل هيّ مفاتيح لفتح أبواب جديدة في العمل، وتحريري من قُيود التكرار أو النمطية”، فتراهُ يُبدع ويُبحر بخيالاته، ليرسو بسفينته الفنيّة بعملٍ إبداعي جديد.
ودائمًا ما يستلهم الفنّان التشكيلي أفكاره من البيئة المحيطة به، مُتأثّرًا بتفاصيلها الصّغيرة ومن معالمها الكبيرة، فتُلامس البيئة لوحاته وأعماله ليتشكل بينهما ارتباطًا وثيقًا بيّنًا، وهُنا يُشير الناعبي إلى أنّ البيئة العُمانية ليست مُجرد مشهد خلفي، بل هي الحاضنة الأولى لخيالاته، حيث يصفُ لنا الناعبي تأثيرات البيئة العُمانية عليه، فيقول: “من العمارة التقليديّة بنقوشها الخشبيّة، إلى الأزياء بألوانها الزّاهية، وحتى ملامح النّاس وهدوء الطبيعة، لكنني لا أتعامل مع هذه العناصر كمواد جاهزة للاستنساخ، بل أُعيد صياغتها بطريقة تحمل بصمتي”، فتغيير الألوان أو دمج عناصر من أماكن وأزمنة مُختلفة في لوحة واحدة، لخلق بيئة جديدة تنتمي للواقع وللخيال في آنٍ واحد، ميزة أعماله الفنيّة الحاضرة في مُشاركاته المُختلفة داخل حدود سلطنة عُمان وخارجها.
كما أنّ الهويّة العُمانية بجميع طيّاتها حاضرة وبشكلٍ تفصيلي في أعمال الفنّانين العُمانيين في السّاحة الفنيّة العُمانيّة، وفي هذا الجانب يقول الفنّان الناعبي: “هناك دائمًا مزيجٌ من البحث عن ذاتي الشخصيّة – ذلك الصوت الداخلي الذي يحدد موقفي من العالم – وبين التعبير عن هويّة جماعيّة أوسع وهي الهويّة العُمانيّة والعربيّة”.
فالأعمال الفنيّة الناجحة هي التي تنجحُ في أن تكون مرآةً لصاحبها، وفي الوقت نفسه نافذةً يُطل منها الآخرون على ثقافته، فالهويّة العُمانيّة جسرٌ يربط بين الماضي والحاضر، وبين الفرد ومجتمعه.
ويُضيف: “من المُهم التركيز على طبيعة العلاقة بين الفنّان وجمهوره، اذ تُعد العلاقة بينهُما علاقة تبادليّة، فيُقدّم الفنّان للمُشاهد حوارًا صامتًا من خلال عرض عمله، فالفنّان يضع ذاته ورأيه في عمله، والمُشاهد يُعيد اكتشافه وفق تجربته ومشاعره”، هذه اللّغة الخاصّة بين الفنّان والمُتلقّي ما هي إلا رابطٌ مُشترك وتفاعلٌ مُستمر بين الطرفين.

يُوضّح الناعبي: “أُريد للمُتلقي أن يشعر بأنّ اللّوحة تُخاطبه شخصيًا، حتى لو كانت الرموز غامضة أو التكوين معقّدًا، أحيانًا أضع في العمل مفاتيح بصريّة صغيرة، كالألوان المألوفة أو الملامح المحليّة لخلق جسر مع المُشاهد”، كما أشار بأنّ النقد يُعد ضرورة، فذلك يمنحه منظورًا خارجيًا لا يستطيع أن يراه وهو غارقٌ في العمل، النقد البنّاء يُساعده على التطوّر، ويكشف له عن نقاط قوّة لم يكُن يُدركها، وأحيانًا عن مواطن ضعف تحتاج لإعادة نظر.
وفي ظلّ المُتغيّرات الاجتماعيّة والثقافيّة، ودور أفراد المُجتمع ككُل في صناعة الوعي وتشكيل الذّاكرة الجمعيّة، يأتي دور الفنّان التشكيلي في المساهمة كفرد له طريقته الخاصّة، فهو ليس مُجرد مُبدع جمالي، بل هُو شاهدٌ على عصره، ومُشاركٌ في صياغة ذاكرته البصريّة. ففي زمن التغيّر والسُرعة وتوالي الأحداث بشكلٍ يُهدد النسيان الجماعّي، يُؤكد الناعبي على أن دور الفنّان بشتّى مجالاته يأتي في تثبيت اللحظات والمَشاهد، وفي حفظ القصص، وتقديم رُؤى قد تُسهم في تشكيل الوعي الجمعي.
وفيما يدور في ذهن الفنّان حارث الناعبي، يأتي ذلك في إطار سُؤال مفاده: كيف يُمكن للّوحة أن تُحافظ على لحظة من التلاشي؟، فهذا ما يُحاول تحقيقهُ في أعماله القادمة، كما أنّ هُناك بعض المساحات التّي لم يتطرّق لها بعد، وفيما يتعلّق بزمن التحوّل، فهُو مُهتم جدًا بتجربة الوسائط التفاعليّة، ودمج الرسم اليدويّ مع التقنيات الرقميّة لخلق أعمال يمكن للمُشاهد أن يتفاعل معها جسديًا أو بصريًا، بدل أن يكون متلقيًا سلبيًا فقط، فدمج الفنّ بالتقنيات الحديثة ما هو الا تحدٍ جديد يُواجه الفنّان المُعاصر.
وفي إطار الحضور المُتزايد للتقنيّات الرقميّة الحديثة والذكاء الاصطناعي، يُؤكد الناعبي تفاؤله بمستقبل الفنّ التشكيلي في سلطنة عُمان، خاصّة مع انفتاح الجيل الجديد على التجريب والابتكار والإبداع، فيُبرهن على ذلك: “التقنيّات الرقميّة والذكاء الاصطناعي ليست خطرًا على الفنّ، بل فُرصة إذا استُخدمت بذكاء، لأنها تمنحنا أدوات جديدة للتعبير والوصول إلى جُمهور أوسع”، فذلك يُثبت أنّ التحدّي الحقيقي الذي يُواجه الفنّان التشكيلي في الوقت الراهن هو الحفاظ على الجوهر الإنسانّي للعمل الفنيّ وسط هذا التطوّر، بحيث تبقى اللّوحة هي من تحمل نبض الإنسان حتى لو صُنعت بأحدث التقنيّات.
ويبقى الفنّ التشكيلي نافذة تعكس روح الفنّان وهوّيته والبيئة المُحيطة به، وتجربة الفنّان حارث الناعبي واحدة من بين التجارب المُختلفة والمُستمرة من بين رحلات الإبداع بين الأصالة والحداثة.