اخبار ثقافية

الغش في المظهر والصورة: الزيف والتجميل المفرط في ميزان الشرع والواقع

الغش في المظهر والصورة: الزيف والتجميل المفرط في ميزان الشرع والواقع

. أ.عائشة بنت عمر حسن العيدروس

شهد العصر الحالي ثورة هائلة في التقنيات الطبية والتجميلية والرقمية، جاعلةً من تغيير المظهر والصورة أمرًا بالغ السهولة والسرعة. لقد تحول التجميل من وسيلة علاجية نبيلة لإصلاح العيوب (الضرورة الطبية) إلى أداة شائعة لـتغيير الخلقة سعيًا وراء الجمال المصطنع والمبالغ فيه. وبالتوازي، أتاحت برامج تحرير الصور وتطبيقات الذكاء الاصطناعي إنشاء هيئات ووجوه افتراضية لا تمت للواقع بصلة. هذا التلاعب، وإن بدا بسيطًا، يفتح بابًا خطيرًا من أبواب الغش والتدليس الذي حذّر منه الإسلام تحذيرًا مطلقًا.

إن الإسلام دين الصدق والبيان، وحذّر من كل صور الغش والتدليس في أي ميدان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا” (رواه مسلم). هذا النص لا يقتصر على الميزان والبيع، بل يشمل أي ممارسة تهدف إلى إظهار الشيء على غير حقيقته بهدف الخداع، ومنها الغش في المظهر.

ويقف هذا التزييف على النقيض من مبدأ تكريم الخلقة، المتجلي في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. فصورته وهندامه الطبيعي هو الكمال الملائم لحكمته سبحانه. إن السعي المتعمد والمبالغ فيه نحو التغيير والتزييف يُعدّ خروجًا عن مقاصد الشريعة، واستخفافًا بنعمة الخلقة.

التمييز بين التجميل المباح والتدليس المحرم

من الدقة بمكان التفريق بين نوعين من الممارسات التجميلية:

1. التجميل المباح (الترميمي): ويكون هدفه إزالة عيب أو تشوّه حقيقي (مثل آثار الحروق، أو إصلاح عيب خلقي واضح) يعود بالضرر النفسي أو الجسدي. وهذا مبني على مبدأ إزالة الضرر.

2. التجميل المحرم (التحسيني/التدليسي): ويكون هدفه تغيير الخلقة لأجل الزيادة في الحسن أو الخداع أو التدليس على الناس. وهو ما ينطبق عليه التحذير الصريح في قوله ﷺ: “لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله” (متفق عليه). التحذير هنا يستهدف التغيير الذي يكون قصدُه الحسنُ الاصطناعي والتدليس، وهو ما يشمل كثيرًا من عمليات تغيير الملامح أو حقن التجميل التي لا تعالج عيبًا بل تُنشئ صورة جديدة مزيفة.

صور الغش الحديثة وتعميقها بالذكاء الاصطناعي

مع التقدم التقني، تعددت وتعمقت صور الغش المظهري لتشمل:

1. التجميل المفرط (تغيير الملامح):

2. التلاعب الرقمي للصور والفيديو لم يعد الأمر مجرد “فلتر” بسيط. لقد أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على إنتاج صور وفيديوهات يصعب التفريق بينها وبين الواقع، بهدف تضخيم المزايا وإخفاء العيوب تمامًا. هذا الاستغلال يتم بشكل خطير في عروض الزواج (عبر منصات التواصل) والتسويق والإعلانات الخادعة، مما يؤسس لعلاقات وصفقات مبنية على وهم مادي.

3. الهويات الافتراضية المضللة: استخدام صور رمزية أو شخصيات افتراضية مغايرة تمامًا للحقيقة على المنصات، مما يؤدي إلى تكوين هويات وهمية ويُزرع الغرور والخداع عندما تُكتشف الحقيقة، مما يهز الثقة في التعاملات الشخصية.

إن الغش المظهري لا يقتصر ضرره على المخالفة الشرعية، بل يمتد ليضرب أركانًا هامة في حياة الأفراد والمجتمعات:

1. اجتماعيًا: يؤدي إلى فقدان المصداقية وهز الثقة بين الناس. في العلاقات الزوجية، يُعدّ اكتشاف الزيف شرخًا عميقًا يهدد العلاقة، لكونها تأسست على تدليس في الرؤية الشرعية.

2. نفسيًا: يعيش الشخص في صراع دائم بين صورته الحقيقية وصورته المزيفة، مما يولد لديه أزمة هوية وعدم رضا دائم عن النفس، واعتماد قيمته الذاتية على المظهر الخارجي المصطنع لا على الجوهر والأخلاق.

3. اقتصاديًا: يُستغل في الإعلانات المضللة والتسويق المغشوش الذي يبني الرغبة الاستهلاكية على وهم بصري، مما يضر بالمستهلكين ويهز الثقة في سلامة ونزاهة الأسواق.

إن العلم والتقنية نعمة جليلة، لكنها تتحول إلى نقمة وأداة غش وخداع عند سوء الاستخدام. تقع مسؤولية الحماية على عاتق الفرد والمجتمع: على الفرد أن يلتزم الصدق في المظهر كما هو في القول والفعل، وأن يعزز ثقافة القبول بالذات والرضا بخلقة الله.

يجب على الجميع أن يتذكر أن الغش، أيًا كانت صورته، لا يزيد الإنسان إلا بعدًا عن الله وفقدانًا لثقة الناس واحترام الذات. فالمسلم الواعي هو من يستفيد من هذه النعم في حدود الشرع والأخلاق، بعيدًا عن محاذير التدليس وتغيير خلق الله بقصد التزييف.

. أ.عائشة بنت عمر حسن العيدروس   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى