اخبار ثقافية

أنسنت الوعي.. بين عنوان مدوي وارتشاف قهوي..

أنسنت الوعي.. بين عنوان مدوي وارتشاف قهوي..

بقلم: د. جميلة الوطني – مملكة البحرين

       إزاء هذه الصدمة الماثلة التي لا يطيقها ميزان سليم أو منطق مستقيم حيث يساق المال بسخاء لفنجان قهوة عابر يزول أثره مع آخر قطرة (والذي يستغرق في العادة نحو 10 دقائق لاحتسائه)، بينما ترقد مجموعة من الكتب على الرف تنتظر عطف الشاري وإشارة التبني (والتي يستغرق إنجاز قراءة الواحد منها أيامًا) يطل السؤال المرعب كصاعقة مفاجئة تضرب أركان الوعي الهادئ… لماذا يتردّد العقل، وهو خازن الأسرار ومطلب الحكمة، في إشباع جوعه الثقافي؟

في كل محفل يقام للكتاب، من معارض الكتب الدولية إلى أي عاصمة تحتفي بالمداد والورق، لا يغيب ذلك التساؤل المرّ الذي يتصاعد كزفرة حارة… ما الذي قلب موازين القيمة في وعينا الجمعي؟ كيف صار الوجدان يهتزّ بخفة عند صرف قيمة فنجان قهوة عصري أو طبق فاخر، بينما يتثاقل ويتردد أمام شراء كتاب هو جليس الروح ومستودع الأفكار؟

المفارقة ليست مجرد لعبة أرقام، بل هي علامة فارقة على اضطراب الأولويات. فثمن تلك الوجبة العابرة التي تزول آثارها في ساعات قليلة، يكاد يساوي عصارة أفكار عدة كتب، تلك التي تحمل خلاصات الحضارات وتجارب البشر. الغريب أن اليد تنطلق بسخاء نحو اللذة اللحظية دون رجع، بينما تتباطأ بخجل عند استثمار روحي يمتد أثره لجيل بعد جيل.

لقد أقر الحكماء قديمًا أن الكتاب هو جوع للثقافة والأدب يوازي جوع المعدة للطعام.. فلماذا نشبع جوع المعدة بأبهظ الأثمان، ونؤجل إشباع جوع العقل الذي هو قوام النهضة وبوصلة الوعي؟

يكمن السر في أننا أسرى لعصر الاستجابة الفورية، ففي طرف الكفة الأولى، نجد (الاستهلاك)، حيث تقف القهوة والمطعم كأصنام اللذة العاجلة، يمنحاننا متعة حسية فورية عارمة، إشباعًا سريعًا يهدهد المزاج أو يسكت ضجة الجوع، ومكافأة آنية قابلة للتوثيق والمشاركة الاجتماعية الباهرة، عائدها مضمون وملموس في ذات اللحظة، كإبريق سحري يعطي الابتهاج بلمسة زر.

أما في طرف الكفة الأخرى، فنجد (المعرفة)، حيث يقبع الكتاب مقدمًا مكافأة مؤجلة تتطلب استثمارًا من نوع خاص؛ صبرًا على الانعزال المقدس، وجهدًا في التفكير العميق الذي يعيد تشكيل الوعي، ووقتًا ثمينًا قد لا يتوفر في جدولنا المزدحم بضوضاء الحياة. إنها متعة روحية تتشكل ببطء وتنمو في الخفاء، كجذر يمتد بصمت ليغذي شجرة الوجود؛ ولأن النفس البشرية تهفو بطبيعتها إلى السريع والمبهر، وضع الكتاب في زاوية الكماليات المؤجلة، بينما صنّف الإنفاق على المظاهر تحت بند الضروريات الاجتماعية الملحة، التي تفرض على الروح أن تلبس ثوب العصر، حتى لو كان قماش الوعي باليًا.

يتفاقم هذا الأمر في ظل ثقافة القصاصات الرقمية وإبهار السوشيال ميديا.. فالقهوة والوجبة يمكن تصويرها ومشاركتها بسهولة للحصول على الإعجاب الاجتماعي بينما القراءة المتعمقة هي متعة خاصة وفردية لا تمنح نفس الرصيد من التفاعل المباشر، وفي الوقت ذاته، بدأت وسائل التواصل الاجتماعي تنافس الكتاب بتقديم إشباع فوري للمعلومة في شكل رؤوس أقلام وقصاصات سريعة، مما يوهم العقل بأنه يكتسب المعرفة دون بذل الجهد اللازم للغوص في عمق الأفكار.

هذا التبادل بين عصارة الفكر وبين متعة حسية سريعة هو في جوهره خيار بين عمق الغد ولذة اللحظة الزائلة. إن المجتمع الذي يسعى لترسيخ مكانته بين الأمم لا يليق به أن يكون مستهلكًا لمظاهر الحياة دون أن يكون صانعًا حقيقيًا لقيمة المعرفة.

فلننظر بصدق إلى فاتورة شهر واحد من شراء القهوة اليومية والوجبات السريعة.. قد يصل مجموعها إلى مبلغ كفيل بشراء مكتبة صغيرة تحوي 20-30 كتابًا سنويًا من أمهات الكتب. نحن لا نرفض القهوة، بل نتساءل، هل من العدل أن نخصص 100% من ميزانية المزاج العالي للمظاهر، و 0% للاستثمار الروحي؟

لنتوقف للحظة أمام أرفف الكتب في أي معرض أو مكتبة، ونسأل أنفسنا بصدق… هل نصنّف أنفسنا ضمن الصنف المبادر الذي يرى في شراء الكتاب استثمارًا حقيقيًا لا تكلفة، لأنه يعيد ترتيب العقل وينير الوجدان؟ أم نحن ضمن الصنف المتأخر الذي يقدّم ميزان اللذة العابرة على استدامة الثقافة؟

وفي الختام، يلزمنا وقفة تأمّل صادقة لنعي بقلوبنا قبل عقولنا أن أكبر استثمار يمكن أن يمنحه الإنسان لروحه ونموّه ليس هو ذاك الذي يشترى على عجالةٍ ببطاقة ائتمانية سخية؛ بل هو ذاك الاستثمار الصامت المبارك، الذي ينمو في خفاء الوجدان ويتجذّر عميقًا بين غلاف كتاب وآخر.. ولجعل هذا الاستثمار واقعًا، نقترح ما يلي..

تبني تحدي 10/10 اليومي… الدعوة لتطبيق الـ 10 دقائق قراءة مكثفة لعشر صفحات يوميًا.. هذا الالتزام البسيط، الذي لا يزيد زمنه عن استراحة قهوة عابرة، سيؤدي إلى إنجاز أكثر من 3000 صفحة سنويًا، أي ما يعادل مكتبة صغيرة من المعرفة.

 تخصيص ميزانية المعرفة… تحديد نسبة ثابتة وصغيرة جدًا (مثلًا 5%) من ميزانية الترفيه الشهرية لغرض شراء الكتب فقط.

ويمكن أيضًا بتأسيس زاوية القراءة، تخصيص زاوية مقدسة للقراءة في المنزل والمكتب، لأن البيئة المنظمة تلعب دورًا حاسمًا في تعزيز العادات الإيجابية.

إن استثمار العشر دقائق في العشر صفحات ليس هدرًا للوقت أو المال، بل هو صيانة مستمرة للعقل.. ثمنه قطرات من دراهم معدودة قد تضيع سهوًا في طيّات جيب منسي، لكن قيمته الروحية والمعرفية والنهضوية تتجاوز أسوار المال والعدد.. رغوة القهوة تتلاشى، لكن رصيد المعرفة يتضاعف، وهو الميراث الروحي الأبدي الذي لا تطاله ألسنة النار ولا تسرقه يد الأيام العادية. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى