التوازن بين الخصوصية والانفتاح الرقمي.. وعي مجتمعي يعزز إثراء التجربة المعرفية

التوازن بين الخصوصية والانفتاح الرقمي.. وعي مجتمعي يعزز إثراء التجربة المعرفية

مسقط /العُمانية/ يعد الانفتاح الرقمي الذي يشهده العالم أداة فاعلة في فتح آفاق واسعة للتواصل وإتاحة الوصول إلى المعلومات وتبادل المعارف والتعليم والإبداع، بجانب دوره في تقليص المسافات وتعزيز المشاركات المجتمعية، إلا أنه يستدعي وعيًا مجتمعيًّا متزايدًا في حماية البيانات الشخصية وضبط سلوكيات الاستخدام مع عادات وقيم المجتمع العُماني؛ فالتوازن في استخدام التقنيات الرقمية مع الحفاظ على الخصوصية يضمن حماية أفراد المجتمع وقيمه.

كما يشهد العالم اليوم انفتاحًا رقميًّا متسارعًا أوجد آفاقًا واسعة للتواصل بين الأفراد تلخص تبادل المعارف وتطوير المهارات، ما أسهم في تعزيز المشاركة المجتمعية وتقريب المسافات بين أفراد المجتمع على وجه الخصوص، كما أن تحقيق التوازن المتعلق بالاستفادة من مزايا الانفتاح الرقمي وصون الخصوصية يعد خطوة أساسية نحو بناء مجتمع معرفي متطور يستطيع مواكبة التحولات الراهنة.

في هذا السياق يتحدث الدكتور ناصر بن محمد آل فنة العريمي مدير مكتب البرامج التقنية بوزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات عن الخصوصية في زمن العالم الرقمي، كون التكنولوجيا الحديثة تطرح تحديًا كبيرًا أمام الفرد، حيث الكيفية التي يمكن من خلالها أن يميز بين ما يمكن مشاركته على الإنترنت باعتباره جزءًا من التفاعل الطبيعي، وما يجب أن يبقى بعيدًا عن الأعين حفاظًا على خصوصيته. ويقول: إن الحاجة إلى تحقيق توازن دقيق بين الانفتاح الذي تتيحه التقنيات الحديثة، وبين صون الخصوصية الاجتماعية وحماية الهوية الثقافية باتت ضرورية، إذ لم يعد التفاعل عبر الإنترنت خيارًا، بل أصبح جزءًا من الحياة اليومية، ما يزيد من تعقيد التمييز بين ما يمكن مشاركته علنًا وما ينبغي حجبه حمايةً للحياة الشخصية.
وأكد أن الوعي الفردي يمثل خط الدفاع الأول، حيث يُدرك المستخدم الواعي أن أي معلومة تُنشر رقميًّا قد تبقى قابلة للوصول أو الاستغلال بطرق غير متوقعة ولمدة غير محدودة. لذلك، من الضروري غرس ثقافة الخصوصية الرقمية منذ الصغر، ليصبح الاستخدام المسؤول للتقنية جزءًا من السلوك اليومي.
وأشار إلى أن سلطنة عُمان قد أصدرت اللائحة التنفيذية لقانون حماية البيانات الشخصية لتوفير إطار قانوني متكامل ينظم عمليات جمع ومعالجة البيانات، ويضمن حقوق الأفراد، مع وضع ضوابط لنقل البيانات خارج سلطنة عُمان، وآليات للتبليغ عن الحوادث الإلكترونية.
وقال: يعد قانون جرائم تقنية المعلومات أحد أركان الحماية القانونية، حيث يجرّم الدخول غير المشروع إلى الأنظمة، والتعدي على خصوصية الأفراد، ونشر البيانات دون إذن. وأضاف أن وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات تكمل هذه الجهود عبر مبادراتها التي تعمل على تعزيز الخصوصية الرقمية وتطوير منصات وطنية آمنة، وتنفيذ برامج توعية، وتحسين البنية الأساسية الرقمية، حيث إن التوازن بين الانفتاح الرقمي وحماية الخصوصية ليس خيارًا أحادي الاتجاه، بل مسؤولية تشاركية تتطلب وعيًا متجددًا، وتشريعات مرنة وواضحة وعادلة، ومجتمعًا قادرًا على التفاعل الآمن مع العالم الرقمي.

من جانبها توضح كفالة بنت حمد العميرية، دكتورة في الصحة النفسية والإرشاد النفسي، دور الأسرة والمدرسة في التوعية الرقمية، كون التحدي لا يقتصر على الفرد وحده، بل يشمل الأسرة والمدرسة باعتبارهما حجر الأساس في بناء الوعي. مشيرة إلى الأدوار التي يمكن أن يقوم بها الأهل والمدرسون لتعليم الأطفال والشباب من أجل حماية أنفسهم رقميًّا، وتقول: إن الأسرة والمدرسة شريكان في ترسيخ الوعي الرقمي لدى الأبناء في ظل التوسع المتسارع في استخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، وتعد التوعية الرقمية أحد أهم أدوار الأسرة والمدرسة في حماية النشء من أخطار العالم الافتراضي. حيث إن التقارير التربوية الحديثة تؤكد أن الاستخدام الآمن والمسؤول للإنترنت أصبح مهارة حياتية أساسية، تستدعي تضافر الجهود بين البيت والمؤسسة التعليمية.

وأوضحت في هذا الصدد أن الأسرة تلعب دورًا محوريًّا في تنشئة الأبناء رقميًّا، من خلال المتابعة الواعية والاستخدام الصحيح للأجهزة الذكية داخل المنزل، إلى جانب الحوار المفتوح حول القيم الأخلاقية في التعامل عبر المنصات الإلكترونية. كما يُنصح الوالدان بأن يكونا قدوة لأبنائهما في إدارة الوقت واختيار المحتوى المناسب، بما يعزز ثقافة الانضباط والاحترام في الفضاء الرقمي.
وقالت إن المدرسة شريك رئيسي في تعزيز هذا الوعي من خلال دمج التربية الرقمية في المناهج الدراسية، وتنظيم حلقات عمل توعوية وتدريب المعلمين على الإرشاد الإلكتروني. كما أنها تسهم في رصد السلوكيات الرقمية غير السليمة مثل التنمر الإلكتروني والإفراط في استخدام الهواتف الذكية، وتقديم الدعم النفسي والتربوي للطلبة المتأثرين. حيث تشير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى أن بناء “المواطنة الرقمية” مسؤولية مجتمعية مشتركة، تتطلب تعاون الأسرة والمدرسة في غرس مهارات التفكير النقدي، والأمن السيبراني، والمسؤولية الأخلاقية لدى الأجيال الجديدة.

من جانبها أوضحت كلثم بنت حمود المقبالية، باحثة ومختصة في المجال الأسري، ما يتعلق بالهوية والثقافة وسط الانفتاح الرقمي، وما إذا باتت هوية الشباب وثقافتهم عرضة للتأثر فيما يتعلق بهذا الجانب، وكيف يمكن تحويل التكنولوجيا من عامل تهديد للثقافات إلى وسيلة لحمايتها. وتؤكد أن قضية تحقيق التوازن بين الخصوصية الاجتماعية والانفتاح على العالم الافتراضي أكثر حضورًا بين شرائح المجتمع الحديث، وخاصة في تواصل شبابنا الدائم مع الواجهات الرقمية المملوءة بمحتوى عالمي يتمتع بتنوع قيمي وثقافي. ورغم الإمكانات الضخمة التي توفرها هذه الساحة للتعلم والاتصال والإبداع، فإنها تضع تحديات بالهوية الاجتماعية وسط المؤثرات الرقمية الخارجيةوبينت أن فئة الشباب هم أكثر عرضة لاكتساب عادات وأفكار يمكن أن تتعارض مع خصوصية مجتمعهم وهويته الأصلية، ولكن لا ينبغي اعتبار هذا التأثير تهديدًا نقيًّا، بل كفرصة لتعزيز علاقتنا بالتكنولوجيا بطريقة ترفع مستوى الانتماء وتعكس الهوية بطريقة وافية. إذ إن التكنولوجيا تلعب دورًا رئيسيًّا في حماية الهويات والثقافات المحلية من الاندثار، عبر دفع قيمها الإيجابية وإنتاج محتوى رقمي يعكس إرادة المجتمع وهويته.
وأشارت إلى أن الدور المركزي للأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دفع التوجه نحو تحقيق الوعي الرقمي، وترسيخ قيم الحياد في استخدام التكنولوجيا؛ وسيكون على مؤسسات الثقافة والتعليم تشجيع الشباب وإحياء طاقتهم الإبداعية والإنتاجية لإبراز قيم الهويات والانتماء العُماني. وأن التوازن يتحقق من خلال شراكة مجتمعية مدركة أن الترفيه الإلكتروني ليس بديلًا للخصوصية، وأن الحداثة ليست بديلًا للأصالة، وأن التقنية لها دور محوري في إشراك العالم في إثراء الهوية والقيم العُمانية

ويشير فيصل بن علي العنقودي، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة نقطة للذكاء الاصطناعي، إلى الفرص والمخاطر في التعلم الرقمي، كون التعلم عبر الإنترنت يفتح أبوابًا واسعة للمعرفة والتواصل، لكنه أيضًا يطرح تساؤلات حول الأمن الشخصي، وإمكانية الاستفادة من هذه الفرص دون خسارة الخصوصية، مرورًا بالخطوات العملية البسيطة التي يمكن أن يتبناها الأفراد والمجتمعات لحماية معلوماتهم الشخصية. وأكد بقوله: إن الانفتاح الرقمي يوسع آفاق التعلّم والتواصل، ويقرّب المحتوى التعليمي والأدوات التفاعلية، إلا أنه يضع الخصوصية أمام تحديات تتطلب وعيًا مجتمعيًا متناميًا وسلوكًا مسؤولًا على المنصّات. ويبرز هنا دور الأسرة والمدرسة والمجتمع في ترسيخ ثقافة حماية المعلومات الشخصية واحترام الخصوصية، بما يضمن استخدامًا آمنًا ومتوازنًا للتقنيات.

وأضاف أنه على الرغم من أن فرص التعلّم الرقمي تشمل الوصول السريع للمصادر المتخصصة، والتعلّم المرن، وبناء مجتمعات معرفية داعمة، إلا أن مخاطر جمع البيانات والتنمر والابتزاز والهندسة الاجتماعية واختراق الحسابات تبقى قائمة، ما يستدعي سياسات واضحة وتطبيقات يومية منضبطة. وللاستفادة من هذه الفرص دون خسارة الخصوصية، لابد من خطوات عملية بسيطة قابلة للتبني من الأفراد والمجتمعات، من أبرزها اعتماد مبدأ الحد الأدنى من البيانات عند التسجيل أو المشاركة، وتفعيل المصادقة الثنائية، ومراجعة إعدادات الخصوصية دوريًا على المنصّات التعليمية والتطبيقات، والفصل بين الحسابات التعليمية والشخصية، وتقليل الأذونات غير الضرورية، والتحديث المنتظم للأجهزة والبرامج مع نسخ احتياطي للبيانات الحساسة، واستخدام أدوات ترشيح المحتوى وحجب التتبع على مستوى الجهاز أو الشبكة بما ينسجم مع السياسات المدرسية والأسرية، وتفعيل الرقابة الأبوية الملائمة للفئة العمرية. كما يُنصح بالتحقق من موثوقية المصادر قبل إعادة النشر، وتنظيم أوقات الاستخدام في المنزل، إلى جانب الإبلاغ المبكر عبر القنوات الرسمية عن أي إساءة.


