من المسرح الجامعي إلى الذاكرة الوطنية
من المسرح الجامعي إلى الذاكرة الوطنية
توثيق تجربة أوبريتَي «أبونا القائد» و«عرس عُمان» في جامعة ظفار
بقلم: أحمد معروف اليافعي
تُعدّ الأنشطة الطلابية من أنقى المساحات داخل المؤسسات التعليمية، وأكثرها قدرة على بثّ الحياة في الجدران الأكاديمية الصامتة. فهي ليست برامج مرافقة أو أنشطة تكميلية فحسب، بل نوافذ للروح، ومساحات حقيقية لاكتشاف الذات، وصقل المواهب، وبناء إنسانٍ متوازنٍ يحمل العلم بيد، والإبداع باليد الأخرى.
وغالبًا ما تكون هذه الأنشطة المتنفس الأصدق للطالب المبدع، الذي لم يسعفه تخصصه الأكاديمي في التعبير عن شغفه الفني، فوجد في المسرح، والموسيقى، والكلمة، والحركة، وطنًا يحتضن طاقته ويمنحه الثقة. ورغم ذلك، لا تزال الأنشطة الإبداعية تعاني من ضعف الوعي بقيمتها لدى بعض المسؤولين، فتُقابل أحيانًا بالتجاهل أو التقليل من شأنها، وتُحاصر بسلسلة من الإجراءات البيروقراطية التي تُرهق المبدع وتُطفئ جذوته.
من هذا المنطلق، أجد نفسي مدفوعًا لتوثيق تجربة فنية عزيزة على قلبي، عشت تفاصيلها بكل شغف وانتماء في جامعة ظفار، حين كنت أتولى مسؤولية النشاط المسرحي والثقافي، قبل أن أتولى رئاسة القسم لاحقًا. تجربة لم تكن مجرد عمل فني، بل حالة وطنية وإنسانية، ما زالت حاضرة في الذاكرة بما حملته من صدق، ووفاء، وجمال عطاء.
«أبونا القائد» … حين وُلد الحلم من الحب
في عام 2015، اجتمعتُ مع مجموعة من الطلبة الذين جمعهم حب الوطن، واتحدت قلوبهم على رغبة صادقة في تقديم عمل وطني مختلف، يخرج من القلب ليصل إلى القلب. ومن ذلك اللقاء، وُلدت فكرة تقديم أوبريت وطني درامي استعراضي بعنوان «أبونا القائد».
جاء هذا العمل متزامنًا مع احتفالات العيد الوطني الرابع والأربعين المجيد، ومشحونًا بمشاعر الفرح والامتنان بعودة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد – طيّب الله ثراه – من رحلة العلاج في ألمانيا؛ تلك العودة التي لم تكن مجرد حدث عابر، بل لحظة وطنية استثنائية أعادت الطمأنينة إلى القلوب، وأشعلت في عُمان فرحًا صادقًا، اختلطت فيه الدموع بالابتسامة، والدعاء بالرجاء، وتجسّد فيه عمق المحبة والولاء لقائدٍ لم يسكن موقع الحكم فحسب، بل سكن وجدان شعبه.
كان «أبونا القائد» رسالة حب، وبوح وفاء، وترجمة صادقة لمشاعر شعب تجاه قائده، قُدّمت عبر لوحات غنائية ودرامية واستعراضية، شارك في أدائها طلبة الجامعة أنفسهم؛ أصواتهم، وكلماتهم، وحركتهم، كلها كانت تنبض بعُمان وقائدها.
رُفع التصور الأولي للفكرة عبر مدير دائرة شؤون الطلبة الأستاذ حسن كشوب، وفي ظل إمكانيات محدودة، وغياب موازنة مخصصة لمثل هذه الأعمال، لم يكن لدينا سوى الإيمان بالفكرة، والإصرار على تحويل الحلم إلى واقع.
شارك في هذا الأوبريت أكثر من مئتي طالب وطالبة، إلى جانب فرق للفنون الشعبية، لتتشكل لوحات فنية جسّدت تنوّع الموروث العُماني، وعبّرت عن وحدة المشاعر الوطنية. كنا نعمل صباحًا ومساءً، نُنسّق الجداول، ونراعي ظروف الطلبة الدراسية، لأننا كنا نؤمن بأن الإبداع لا ينبغي أن يكون على حساب العلم، بل شريكًا له.
حين يكون الدعم… يصنع الفارق
شكّل دعم رئاسة الجامعة نقطة التحول الحقيقية، بقيادة البروفيسور الدكتور حسن سعيد كشوب، الذي أدرك منذ اللحظة الأولى أن ما يُصنع ليس عرضًا فنيًا عابرًا، بل رسالة وطنية صادقة.
وفي اجتماع ضم عددًا من القيادات الإدارية، وحين سألني رئيس الجامعة عن طبيعة العمل، أكدت أننا أمام أوبريت متكامل، يُقدَّم بأصوات ومواهب طلابية خالصة. وكانت كلمته التي لا تزال عالقة في الذاكرة:
«كلنا معك، أنت تعمل من أجل القائد، ونحن سنوفّر كل ما يلزم. المهم أن يخرج العمل بصورة مشرفة».
في تلك اللحظة، شعرت بأن الإبداع محمي، وبأن الثقة وُضعت في مكانها الصحيح. وللمرة الأولى في مسيرتي المهنية، كان الدعم المالي والإداري حاضرًا بقوة، يعمل الجميع بروح الفريق الواحد، لا لعرقلة الفكرة، بل لتمكينها.
نجاح يتجاوز المسرح
قُدّم أوبريت «أبونا القائد» تحت رعاية معالي محمد بن سلطان البوسعيدي، وزير الدولة ومحافظ ظفار آنذاك، وحقق نجاحًا لافتًا، نال إعجاب الحضور، وترك أثرًا عميقًا في نفوسهم.
ولم يتوقف النجاح عند حدود العرض الأول، بل أُعيد تقديم الأوبريت في حفل التخرج الرسمي للجامعة، تحت رعاية معالي عبدالعزيز الرواس، وأمام مجلس الأمناء ومجلس الإدارة وضيوف الحفل، في مشهد جسّد تقدير المؤسسة لجهد أبنائها واعتزازها بإبداعهم.
«عرس عُمان» … الفرح يتجدد
مدفوعين بنجاح التجربة الأولى، وبفرح الطلبة بما تحقق، قررنا خوض تجربة وطنية جديدة بعنوان «عرس عُمان»، أُقيمت في الساحة الخارجية لحرم الجامعة، وشاهدها أكثر من ثلاثة آلاف متفرج.
أُقيم الأوبريت تحت رعاية معالي الشيخ مستهيل المعشني، رئيس مجلس الأمناء بجامعة ظفار، ونُقل مباشرة عبر تلفزيون سلطنة عُمان، ليكون أول أوبريت في تجربتي يُبث على الهواء مباشرة.
ورغم أن فترة التحضير لم تتجاوز عشرة أيام، إلا أنها كانت أيامًا استثنائية، امتلأت بالتعب الجميل، والعمل المتواصل، والقلوب المخلصة التي لا تعرف إلا العطاء حين يكون الوطن هو العنوان.
أثر لا يزول
مرّت قرابة عشر سنوات على تلك التجربة؛ تخرّج الطلبة، وتفرّقت بهم الدروب، ولا أعلم أين أخذتهم الحياة، لكنني على يقين بأن ما عاشوه، وما شاركوا في صناعته، ترك فيهم أثرًا لا يُمحى.
ومن أجمل مخرجات تلك الأعمال بروز أسماء طلابية أصبحت اليوم معروفة في الساحة الثقافية والفنية، منهم: الشاعر سالم المعشني (بوعامر)، والشاعر والمحامي حسن غفل الشحري، والشاعر عاصم عاطف اليافعي، وفي الغناء هيثم تبوك، وفي التقديم معمر باحجاح، إلى جانب أسماء أخرى أخشى أن يخذلني الحصر في ذكرها، لكنها جميعًا لا تزال حاضرة في الذاكرة، مبدعة في مواقعها.
ما أجمل الأنشطة الطلابية حين تُحتضن، وما أجمل الأعمال الفنية حين تُصنع بصدق، فتبقى خالدة في الوجدان، شاهدة على زمنٍ كان فيه الإبداع محل ثقة، والعمل الجماعي مصدر فخر، والوطن حاضرًا في كل نبضة قلب.