لص في الذاكرة!

لص في الذاكرة!

كتب حسين الذكر- العراق
كلما تأملت قول ابي ذر الغفاري ذلك الراهب ناصع السمو الذي يشبه تماس الصحراء بنقطة التقاء السماء بأجمل وأبهى صورها وهو يقول: (عجبت لرجل لا يجد قوت عياله ولا يخرج حاملا سيفه).. في دعوة صريحة تحرم احتكار الارزاق وفتوى ناصعة الانسنة لفك قيود شفرات الجوع بأسنّة الحراب ان اقتضت الضرورة.
ما زلت اتذكر تلك القصة المتداولة في الصف الاول الابتدائي وهم يرسخون في اذهاننا النصائح بطريقة اجتماعية ادبية محببة، اذ تقول الحكاية: (ان طفلًا وجد بيضة دجاجة وجاء بها لامه التي لم تسأله عن مصدرها وعبّرت عن فرحتها بها، لكن في اليوم الثاني بحث الطفل عن بيضة اخرى فلم يجدها فاضطر لسرقة واحدة من قن دجاج الجيران، هكذا نمت العلة الاولى المحركة للحصول على الرزق وتحقيق الرغبات بأسهل الطرق. حتى تصل الحكاية الى نمو الطفل وتصاعد وتيرة الجرأة والشجاعة والجسارة والاعتداد بالنفس جراء عدد ضحايا الدجاج والديوك والكلاب والاغنام … التي اخذت تطيح رؤوسها وهو يتفنن بسرقتها.. حتى تجمع معه عدد اخر من المشردين والمعوزين والمتسربين من المدرسة لتتطور القضية من رغبات الى جرائم انتهت بالحكم بالأعدام.. وقد طلب الابن المدان رؤية امه ليقبلها مودعا لكنه عض لسانها بقوة قائلا: (هو من شجعني وعلمني على السرقة).!
قد تبدو الحكاية جميلة وطريفة فعلا تصلح للأطفال لأزها أعدّت بسيناريو متخصص للوعظ والارشاد في واحد من مقاربات مجتمعية قد تبدو مستساغة وتتطابق مع بعض الوقائع في بيئة مشابهة.. الا انها من ناحية اخرى لا تعد سببا وحيدا لصناعة المجرمين سيما اصحاب الكبائر منهم.. مع ان الكبائر من الناحية الشرعية تعد صغيرة متواضعة مع ما يرتكب من جرائم ومجازر باسم التشريع.
يقال ان ارسطو هو اول من ميّز بين السرقة كفعل شائن، وبين بعض أشكال الاستحواذ التي قد تكون مبررة في حالات الضرورة القصوى، وهو تفريق فلسفي بين الجريمة والدافع.
ما هي السرقة: (اخذ الشيء من الغير خفية ومنها استرق السمع أي سمع مستخفياً ويقال هو بسارق النظر اليه إذا انتظر غفلة لينظر اليه).. قطعا ان التعاريف لا تقف عند حدود التعريف الاول.. فهناك لغة وهناك اصطلاح وهناك فقه وهناك قانون وهناك عُرف.. حتى تتيه عليك المعاني في جميع التعاريف وليس في السرقة فحسب … لدرجة أنك تقع في ازمة تحديد المفاهيم التي تبدا تتحرك حسب الظرف والزمكان واحيانا تميل حيث مال السلطان وحب الذات وغير ذاك الكثير من الالوان التعريفية التي يصل بعضها الى انه ينسف التعريف الاول).
بصورة عامة وما تعلمته شعبيا او جادت به البيئة على عقليتي التي رسخت فيها الكثير من ترسبات المجتمع ومنها تعريف السرقة اذ يعرفه: (كل من حاول الاستحواذ على ممتلكات الغير مادية او معنوية دون علم صاحبها وبموافقته تعد سرقة ومرتكبها يستحق لقب لص).
هكذا ترسخ المفهوم في ذهني وعقلي الباطن منذ تباشير الطفولة وبواكير الصبا والشباب … حتى اصبحت أخشى من (جَرة الحبل في التعاطي مع اشياء الاخرين وان كانت نفسي تشتهي ما عندهم). اتذكر كنت أُساير ابي رحمه الله في احد الاسواق حينما حدثت جلبة كبرى لجمهرة من الناس وهم يشاهدون رجلًا شرسًا ذا صوت اجش وعضلات مفتولة يهدد امرأة شبه عرمة منها للشباب وهو يحول اجبارها امام مرأى الناس بان تخرج ( الجوزدان ) حافظة نقود امرأة اخرى كانت تقف وسط الجمهرة وهي تبكي من اجل استرجاع محفظتها المسروقة وبين جر وعر وضرب وهرج ومرج ومع تزايد الجموع بسرعة وهي تشاهد حدثًا تستمتع فيه (بالاكشن) دون ان يكون لها ردة فعل اصلاحية او علاجية او نظرة رحمة لحدث يحتمل تفسيره وتعليله لوجوه ومبررات عدة ..
فيما الجموع تنظر موقفًا دراميا حزينا صاخبا وإذا بالرجل ذي العضلات يجر ثوب المرأة المتهمة ويعريها امام الناس مما جعلها تصرخ وترمي الحافظة التي كانت تضم مبلغًا زهيدًا لآمراه اخرى جاءت تشتري بعض ارغفة خبز.. وما ان تم تعرت المرأة عنوة حتى تحول المشهد الى ساحة حرب شهد تدخل بعض الشباب ومنهم ابي محاولين ستر المرأة ورمى بعضهم ملابسه عليها فيما اخرون انقضوا على المعتدي وبطحوه ارضا وبين الدموع والصراخ واصطفاف وتعاطف جميع النساء الحاضرات مع المرأة العارية حتى وان كانت متهمة بالسرقة.. لم ينته المشهد الا بتدخل بعض الصالحين واعادوا المحفظة لصاحبتها فيما تم تعويض المتهمة بمبلغ نقدي أفضل مما كان بالحافظة من اجل ان تسكت عن تلك الفضيحة ولا تبلغ اهلها لان قضايا الشرف أخطر من انواع السرقة في العرف العربي).
تشكل فلسفة اللصوصية والسرقات في التاريخ محنة دينية بل فلسفة وجودية تبحث عن اسباب مطاردة الفقراء وهم يتحايلون ويتفنّنون لضمان العيش ولو بأساليب غير مشروعة فيما يسكت المجتمع عن أكبر سرقات الدول والحكومات والمجتمعات والتي تعد بالمليارات دون ان يؤشر عليها أحد او تتابعها عيون الناس … فكثير من رجالات الحكم في كل زمكان فلتوا من الرقيب والحساب وقد أثرَوا حد الترهل بمحرمات الامة دون ان يوقفهم أحد بل ان اجيالهم ورثوا ما يعد بنظر الدين حرام.. فيما هم يرتعون به بأنواع المحللات والمسكرات والمحرمات … في واحدة من اعقد تفسيرات السرقات او الحلال والحرام التي عرفناها في الطفولة بشكل ما فيما نعاني من فهم جديد لها مع تقدمنا في العمر.
من جميل ما قيل في السرقة: (السرقة ليست في اليد، بل في الضمير).
في واحدة من اهم الفلسفات التي ينبغي الاخذ بها على مستوى التربية واصلاح الضمير المجتمعي في الحرص على معالجة الحالات الشاذة وحمايتها من عوز يجعلها ضحية لأنواع المخاطر والضياع.
رحم الله جان جاك رسو اذ قال: (الوطن هو المكان الذي لا يبلغ فيه مواطن من الثراء ما يجعله قادرًا على شراء مواطن آخر، ولا يبلغ فيه مواطن من الفقر ما يجعله مضطرًا أن يبيع نفسه أو كرامته).



